حتى أواخر القرن التاسع عشر، ساد اعتقاد بين العلماء بأن القطب الشمالي مغطى ببحر خال من الجليد. اعتمدت هذه الخرافة على كتابات علماء كبار في القرن الثامن عشر، مثل بُفُنBuffon ، ودلمبير d' Alembert ، إذ لم يكونوا ليتخيلوا أن البحر يمكن أن يتجمد. واعتقدوا أن المحيط القطبي الشمالي السائل محاط بجليد مصدره الأنهار التي تصب في مياه البحر وتحمل معها الجليد من اليابسة.
يروي كاتب الخيال العلمي الفرنسي، جول فيرن، (1828-1905) في قصته "صحراء الجليد" مغامرات القبطان أترا، الذي يبحر بسفينة عبر بحر خالٍ من الجليد وهو يقترب من القطب الشمالي. فهل كان هذا الوصف شطحة خيال للكاتب؟ كلا! بل كان يعبر عن الاعتقاد السائد والراسخ لدى الجميع في تلك الفترة. وبعد صدور قصة فيرن بنحو عشر سنوات، في عام 1876، اتجه المستكشف الإنجليزي جورج نارس G.Nares إلى القطب الشمالي، عبر اليابسة، لكنه أخذ معه قوارب ليستخدمها في مسيرته قرب القطب، في البحر القطبي المفترض.
اتفقت شهادات عدد من البحارة المرموقين على دعم مقولة القطب الشمالي الخالي من الجليد. ومنهم الأمريكي اسرائيل اسحق هيز الذي ادعى أنه رأى البحر سائلاً دون جليد قرب القطب وذلك عام 1854. ومنهم أيضاً السويدي أدولف نوردنشلد. وتضمنت الموسوعات والمعاجم الصادرة في أواخر القرن التاسع عشر عبارات تصف القطب الشمالي بأنه بحر محاط بحاجز من الجليد.
كيف نفسر نشوء هذه الخرافة وانتشارها؟
يحق لنا حقاً أن نعجب من هذه الأفكار المغلوطة وكيف انتشرت واعتنقها العلماء والجغرافيون حتى زمن ليس بالبعيد. لكن مثل هذا الأمر يحصل في عالم العلم من وقتٍ لآخر. وحتى في عصرنا الحاضر(مثل أكذوبة الاندماج النووي البارد قبل نحو عشرين سنة).
يزداد استغرابنا لرسوخ الاعتقاد بهذه الخرافة إذا علمنا أن الملاح بيثياس، من مدينة مرسيليا الفرنسية، قد قام برحلة في أسطوله الصغير باتجاه الشمال عام 330 قبل الميلاد ليتحقق من أن طول كل من النهار والليل يتغير مع تزايد خطوط العرض باتجاه الشمال، وأن الشمس لا تغيب خلال فصل الصيف في المناطق التي تقع شمال خط العرض 66.5 درجة.
وجد بيثياس أن البحر أصبح متجمداً في الشمال ويستحيل فيه الإبحار أو حتى السير على الأقدام، وأكد بذلك حدس اليوناني بارمنيدس بأن الأرض كروية وأن قطبيها متجمدان وأن البرد يتزايد كلما اقتربنا منهما.
البحر لا يتجمد
خلال القرن الثامن عشر الميلادي، اعتقد علماء عديدون أن البحر المالح والهائج دائماً لا يمكن أن يتجمد. وكتب بفن في كتابه "التاريخ الطبيعي" الذي نشر عام 1749 أن البحر الأسود يمكن أن يتجمد حتى أعماقه بسبب الجليد الذي تحمله إليه الأنهار. أما البحار القريبة من القطب فإنها غير متجمدة. وهو يدعم ادعاءه هذا برواية بحار إنجليزي يُدعى منسن يقول أنه وصل بسفينته إلى القطب الشمالي دون أن يصادف أي جليد في طريقه.
نقل عدة علماء كبار هذه الادعاءات وقدموا حججاً تدعمها. ومن ذلك أنه حتى لو تكون الجليد في البحر، فإنه لن يكون مرتبطاً باليابسة وبالتالي فإنه سيبقى متحركاً وغير مستقر حتى ينصهر بتأثير حرارة الشمس.
وكتب فليب بواش، كبير جغرافيي ملك فرنسا، عام 1729 أن ملاحي السفن التي توجهت إلى الهند عن طريق بحر الشمال، قد لاحظوا أن الجليد قرب الشواطئ أكثر منه في عرض البحر، وتفسير ذلك أن مصدر هذا الجليد هو الأنهار التي تحمله من اليابسة.
أما الفيزيائي الإنجليزي ادمند هالي (1656-1742)، وهو الذي حسب مدار المذنب الذي سمي باسمه، فقد حاول أن يثبت أن كمية الحرارة التي يتلقاها القطب أثناء الصيف أكبر من تلك التي تتلقاها الدائرة القطبية، لأن النهار يدوم 24 ساعة في الصيف القطبي مما يعوض ميل أشعة الشمس وبالتالي فإن منطقة القطب لا يمكن أن تتجمد.
وربما يكون لهذا الاعتقاد مصدره الأسطوري أيضاً. فالأساطير اليونانية تفترض موقعاً "سماوياً" خلف مصدر الرياح الشمالية، والجنة حسب معتقدات العصور الوسطى كان موقعها في الشمال، في القطب. وبابا نويل أو سنتاكلوز يأتي من القطب الشمالي حيث يسكن. ولهذا لا بد أن الطقس هناك مناسب للمعيشة.
وعلى أية حال، فإن الرواد الذين وصلوا القطب الشمالي في بواكير القرن العشرين، شاهدوا الجليد يغطي المحيط الشمالي على الدوام. لكن، منذ ثلاثين سنة، يتراجع هذا الجليد ويتقلص بمعدل بضعة عشرات الآلاف من الكيلو مترات المربعة سنوياً.
ويتوقع علماء المناخ أن يتسارع هذا التراجع في الجليد القطبي. فهل يكون ذلك إحياء لتلك الخرافة القديمة المتمثلة بقطب شمالي خالِ من الجليد. قطب يجسد الحلم القديم بجنة عدن قطبية، ولكنها جنة تعادل كابوساً لعالمنا المعاصر، عندما يذوب جليد القطب ويرتفع مستوى ماء المحيطات ليغمر مدناً ساحلية وجزراً مأهولة عديدة.
مجلة البحث الفرنسية La Recherche 3/2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق