في عام 2000 اقيم في لندن معرض الالفية ( Millennium Dome ) ، وكان أحد المعروضات التي جذبت انتباه الزائرين عرض فيديو مفصل لقلب بشري ينبض . شاهد الناس حركة الدم في الاوعية الدموية واستمعوا الى موسيقى النشاط الكهربائـي للقلب . وقد وصف التعليق الصوتي ، المرافق للعرض ، القلب بأنه أقوى أداة لدينا لمقاومة الامراض . لكن قلة من الزوار عرفوا مغزى هذه الجملة .
لم يكن عرض " القلب النابض " مجرد فلم فيديو بسيط ، بل كان في الواقع نتاج تطوير حاسوبي معقد لنموذج القلب استغرق أكثر من أربعين سنة .
هذا النموذج هو مثال على " بيولوجيا الانظمة " ( Systems biology ) ، وهو اسلوب مختلف في كيفية تفكير علماء الاحياء في هذا العلم وفي كيفية اجرائهم الابحاث فيه .
لكن العقيدة المركزية لمعظم الابحــاث العلميــة هي مـا يمـكن تسميته الاختزالية ( reductionism ) ( أو المكوناتية أو الجوهرية ) ، وتعني أن الاشياء تفهم فهما افضل اذا اختزلت الى أبسط مكوناتها .
هذه الفكرة مفيدة جدا في الفيزياء والكيمياء ، لأن ابسط مكونات المادة تحمل صفاتها ، فاصغر المكونات الناتجة عن مسارع دقائق ذرية أو من انبوب اختبار تتصرف انفراديا بطرق متوقعة .
في المقابـل ، فان لهذه الفـكرة محدداتها ونواقصها في علم الاحيــاء ، لقد مثل مشروع الجينوم البشـري ( رسم الخريطة الجينية للانسان ) نصرا لمبدأ الاختزالية . لكن مجرد وضع قائمة بالجينات لا يفسر كيف تتعاون الجينات لتبني الجسم ولتجعله يعمل . كما أن الخلايا المنفردة أو الجزيئات العضوية لا توضح تماما أسباب أو كيفية تطور الأمراض التي تصيب الكائن الحي أو بعض أعضائه .
ان التوصل الى فهم كامل للعمليات الحيوية يعني اعادة تجميع الجزئيات – وهذا ما يسعى لتحقيقه علماء احياء النظم ، باستخدام نتائج عدد هائل من التجارب التحليلية لبناء نماذج حاسوبية تسلك سلوك اجزاء من الكائنات الحية .
لا يمكنك أن تغلب النظام
تسعى صناعة الادوية للحصول على مكاسب كبيرة من هذا الاسلوب . ان حوالي 40% من المركبات التي تختبرها شركات الادوية تسببب اضطراب نبض القلب ( arrhythmia ) . فدواء الالتهاب فيوكس Vioxx ، أو دواء السكري أفنديا قد يسببان الاصابة بأمراض القلب .
أدت هذه الاعراض الجانبية المرتبطة بالأدوية الى خسائر بالمليارات لمصنعي الادوية ، ولهذا السبب لجأ هؤلاء الى دنس نوبل/ جامعة اكسفورد ، وهو الذي صمم نموذج القلب النابض الذي تحدثنا عنه اعلاه .
يعمل نوبل الآن مع تجمع يضم اربعا من اكبر شركات الادوية لكشف الطريقة التي يؤثر فيها دواء جديد على القلب . يحقن الدواء الجديد افتراضيا في نموذج القلب ثم يراقب الباحثون التغيرات التي يحدثها الدواء ، تماما كما لو أن الدواء طبق على قلب حقيقي . يلاحظ عندئذ أن انتاج بعض البروتينات يزداد بعكس بعضها الآخر . هذه التغيرات تؤثر على جريان الدم وعلى النشاط الكهربائي للقلب . عندئذ يمكن تعديل تركيب الدواء لزيادة تأثيراته المفيدة وتقليص التأثيرات الضارة .
نلاحظ اذن أن بيولوجيا النظم تسرع عملية فحص الادوية ، وباستخدام قواعد بيانات تتضمن عشرات آلاف التفاعلات والتأثيرات المتبادلة بين مركبات الخلايا ، امكن تطوير أنظمة فائقة السرعة لفحص الادوية الجديدة وتقييم آثارها خلال اسبوعين ، بدلا من امضاء سنتين للتعرف على تأثيراتها بالطرق التقليدية.
وقد طبقت طرق بيولوجيا النظم على أدوية نعلم أن لها اعراض جانبية ضارة ، فلوحظ أنه كان يمكن كشف هذه التأثيرات لو استخدمت هذه الطرق مسبقا ، كما يمكن تطبيقها أيضا لفحص فعالية وأمان العلاج الطبيعي بالاعشاب أو بالحميات الغذائية . ولا شيء يمنع من توسيع نطاق هذه النماذج لتشمل حيوانات التجارب كالفأر ، والذي يبدو أن الباحثين يفهمونه أكثر مما يفهمون جسم الانسان .
ان الهدف البعيد لبيولوجيا النظم هو بناء نموذج جسم بشري كامل متكامل ، لكن الاسلوب الاختزالي يبقى ضروريا لتحقيق هذه الهدف . فجسم الانسان يتكون من خلايا ، وقد تكون افضل طريقة لبناء نموذج الجسم هي في بناء خلية افتراضية عامة الغرض يمكن اعادة برمجتها لتمثل أيا من نحو (220) نوعا من الخلايا في الجسم البشري .
تبقى المعضلة الكبرى، وهي الحصول على حاسوب جبار يقوم بكل هذه المهام وبالسرعة المطلوبة . ويتفاوض د. نوبل حاليا مع شركة فوجتسو اليابانية لتطوير حاسوب قادر على القيام بعشرة الاف ترليون ( أي عشرة ملايين مليار ) عملية حسابية في الثانية . وسيكون بذلك اسرع حاسوب في العالم لكن كلفته المقدرة هي بليون دولار . وهذا المبلغ يعادل ربع كلفة مشروع الجينوم البشري .
حسام مدانات
Economist Oct. 27/2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق