Powered By Blogger

الأحد، 12 فبراير 2012

تجارة الماء الافتراضية

حسام جميل مدانات


إذا كانت دولة ما تعاني من شح الماء، فان كل مادة غذائية نستوردها تكون بمثابة استيراد للماء.

يستهلك المواطن في الدول المتقدمة نحو ألف متر مكعب من الماء سنويا لسد حاجاته وهو يشرب من هذه الكمية مترا مكعبا واحدا . ويحتاج نحو مئة متر مكعب لحاجاته المنزلية . وبشكل عام لا تتطلب المهن التي يمارسها سكان المدن كميات كبيرة من الماء. ويبقى استهلاك المصانع والمناجم للماء وهو ليس كبيرا إذا قارناه بما تستهلكه الزراعة. ويمكن القول إنها تستهلك نحو 90% من إجمالي استهلاك الماء العذب.

يوجد في العالم اليوم نحو 200 دولة، والقليل منها يتمتع باكتفاء ذاتي من الماء اللازم لمختلف الأغراض، وخاصة الزراعية منها.

أما فيما يتعلق بالحاجات غير الزراعية، فان معظم دول العالم تمتلك ما يكفيها من الماء للشرب والأغراض المنزلية وغير الزراعية. ويستثنى من ذلك العدد قلة من الدول، من بينها دول الخليج العربي وسنغافورة، والتي تضطر لإنتاج الماء العذب بوسائل أهمها تنقية أو تحلية ماء البحر.

تستورد معظم الدول بعض حاجاتها الغذائية من الخارج ، ويمثل سوق المواد الغذائية المصدرة نحو خمس الإنتاج العالمي من الغذاء.

الدول المصدرة هي عادة دول غنية بالماء. بينما المستوردة تعاني غالبا من شح الماء. وعندما تستورد الغذاء فكأنها استوردت الماء الذي استخدم في إنتاج هذه المواد الغذائية.

يلزم نحو ألف متر مكعب من الماء (ألف طن) لإنتاج طن واحد من القمح. وعندما تستورد الأردن مثلا طنا من القمح من الولايات المتحدة أو كندا، فكأنما هي تستورد ألف متر مكعب من الماء العذب. وتزيد هذه الأرقام فيما يتعلق باللحوم . إذ يلزم نحو (16000) ستة عشر ألف طن من الماء لإنتاج طن واحد من لحم العجل.

مـن هنــا جاءت هذه الفكــرة وهــذا المصطلح : التجـــارة الافتراضيـــة (Virtual commerce ) في الماء . فهي تجارة افتراضية لأن الماء لا يصدر ويستورد فعلا، وإنما هي سلع أخرى تحتاج الماء لإنتاجها. وهذا يعني أن شح الماء لم يعد في الواقع يمثل مشكلة خطيرة لأية دولة . لأن الاستيراد الافتراضي للماء على شكل مواد غذائية: حبوب، فواكه، لحوم، سواء طازجة أو معلبة، يعوض شح الماء ويخفف وطأته والشعور به.

ويمكن تقديم مصر كمثال في هذا المجال ، فد كانت مصر مكتفية بالماء حتى سنوات السبعينات لكن الانفجار السكاني المتمثل في الزيادة الكبيرة في عدد السكان ، وارتفاع مستوى المعيشة ، أديا إلى عجز الموارد المائية المحلية عن تلبية الحاجات (؟) ( أليس غريبا أن يعجز نهر النيل عن ذلك ) فبدا اعتماد مصر على الاستيراد الافتراضي للماء في التزايد ، وهي اليوم تستورد أكثر من نصف حاجاتها من الغذاء ولم يثر هذا الواقع ردود فعل عنيفة أو مشكلات خطيرة .

الواقع أن وسائل الإعلام نادرا ما تتحدث عن هذه التجارة الخفية في الماء، أي الاستيراد الافتراضي للماء على شكل غذاء. ولكن هذا يتطلب أن يكون البلد المستورد للماء افتراضيا ثريا ويملك موارد أخرى تمكنه من دفع ثمن الماء والغذاء المستوردين. ونذكر هنا سنغافورة كمثال بارز، فهي تستورد كل حاجتها من الغذاء تقريبا. إضافة إلى نصف حاجاتها من الماء للأغراض المنزلية والصناعية .

أما الأردن فهو يكفي بالكاد حاجاته من الماء للمنازل والصناعة (رغم استيراد نسبة كبيرة من مياه الشرب المعلبة ) ولكن الأردن يستورد 80% من حاجاته الغذائية، رغم أنه بلد فقير نسبيا في موارده، لكن اقتصاده متنوع لدرجة تكفي للإيفاء بكلفة استيراده لمعظم غذائه .

رغم أن هذا الأسلوب من الاستيراد الافتراضي للماء يحل المشكلة، كما يبدو، وكما هو حاصل فعلا، للعديد من الدول، إلا أن تجاهل وجهة النظر هذه على المستوى الحكومي وعدم صياغة سياسة الدول بناء عليها، قد لا يساعد كثيرا. فضعف موارد الدولة من الماء لا يمكن اعتباره مشكلة مستعصية وقاتلة: إن شح الماء لا يسبب الفقر، وإنما الفقر هو الذي يسبب شح الماء.

يمكن القول إذن إن الماء والغذاء والطاقة (ومختلف عناصر الاقتصاد الأخرى كالإنتاج البشري الآلي والفكري ، والخدمات المالية والسياحة .. الخ) تشكل جميعها وجوها لعملة واحدة. فكل عنصر منها قابل للتحويل إلى أي عنصر آخر بفضل سهولة حركة السلع والأيدي العاملة بين دول العالم حاليا.

فالدول الغنية بالطاقة كدول الخليج العربي، لا تعاني من نقص الماء، بل أصبحت تصدره، بفضل توفر طاقة رخيصة.

يبقى أن نتساءل عما يخبئ لنا المستقبل ! لا شك أن هناك من يتشاءم وهناك من يتفاءل. يرى المتشائمون أن تلبية الاحتياجات المستقبلية مستحيل، خاصة مع تردي أوضاع المصادر المائية التي يتزايد تلوثها مع تزايد العمران والحضارة. أما المتفائلون، فيعتمدون على ما يحصل في العالم من تغيرات اجتماعية (وبالذات في الجوانب السياسية والسكانية كما يحصل في الصين) إضافة إلى التقدم التقني والعلمي الذي يزيد من فعالية الإنتاج الزراعي ويخفف الضغط على المصادر المائية. في المقابل هناك جوانب أخرى تعقد المشكلة، مثل تزايد استخدام الحبوب لإنتاج الطاقة كما يحصل في البرازيل والولايات المتحدة بالذات (تحويل قصب السكر والذرة إلى وقود للسيارات) . فمصادر الطاقة هذه تحتاج لإنتاجها ما بين عشرة أضعاف ومائتي ضعف كمية الماء مقارنة مع مصادر الطاقة التقليدية غير المتجددة، أي النفط والغاز. أي أن هذا التوجه يزيد من الضغط على الموارد المائية التي تعاني بالفعل من الشح على مستوى العالم.

La Recherche 7-8/2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق