Powered By Blogger

السبت، 26 نوفمبر 2011

البكتيريا المنمنمة : هل هي نوع آخر من الحياة؟

التقرير العلمي/ المجلة الثقافية- عدد مزدوج: 64/65

حيدر مدانات م. حسام مدانات
جريدة الرأي دائرة الأراضي والمساحة

في عام 1992 فحص الجيولوجي الأمريكي روبرت فلك (R.Folk) عينات كلسية من المياه الحارة في منطقة تفولي قرب روما ي ايطاليا، فاكتشف بصمات غريبة في الصخر، ابعادها بضع عشرات من النانومترات (النانومتر يساوي جزءاً من بليون من المتر، اي جزءاً من مليون من الملمتر). وذكرته أشكالها بالبكتيريا، فأطلق عليها اسم نانوبكتيريا اوما اتفق على تسميته بالعربية (البكتيريا المنمنمة). لكن هذه الكائنات اصغر من ان تحتوي على المواد اللازمة للحياة.

وعلى سبيل المقارنة فبكتيريا اي كولاي يصل طولها الى 1200 نانومتر والميكو بكتيريا 330 نانومتر. اما الفيروس المتوسط فقطره نحو 85 نانومتر وهو لا يعتبر كائنا حيا بالمعنى المتفق عليه علميا، وينطبق الامر نفسه على البريون (25 نانومترا). بينما تقع البكتيريا المنمنمة بين هذين الكائنين الأخيرين في ابعادها (65 نانومترا).

وهكذا فان هذه الكائنات من الناحية النظرية اصغر من ان تحتوي على المواد اللازمة للحياة. لكن حقيقة انها قادرة على صنع رنا (RNA) تدل على انها ليست خاملة. فهل هو نوع جديد (بالنسبة لنا) من الحياة، يتحدى القوانين التي نعرفها ونسلم بها؟ يبدو ان الجدل حول هذا الموضوع لم يحسم بعد.

أين تبدأ الحياة؟ وانطلاقا من اية مواد او مكونات اولية؟
وما هو اصغر كائن حي ممكن؟
انها اسئلة قديمة قدم العلم. وقد توصل العلماء بفضل التقدم التقني الهائل خلال السنوات الاخيرة الى وسائل تكشف عن اصغر اشكال الحياة، والتي حددوها بانواع من البكتيريا، تدعى الميكوبلازما، ويبلغ قطرها نحو 330 نانومتر.
يعتبر دنا (DNA) قاعدة الحياة، أي حياة. وهو ينتج جميع المكونات الضرورية لعملية الأيض –التمثيل الغذائي- والتكاثر في الكائن الحي، أي رنا (RNA)، والبروتينات، واللبيدات (الدهون) والغلوسيدات.
وبالتالي فانه يلزم حجم ذو حد ادنى قادر على احتواء هذه المكونات. فاذا ثبت وجود كائنات حية اصغر من هذا الحجم الادنى، فان شكلا مختلفا من الحياة يقدم نفسه لنا، مما يفرض اعادة النظر في اسس علم الاحياء التي نعرفها. وقد حدد العلماء هذا الحجم الادنى ب (180) نانومتر.
في صيف عام 2004 اكتشفت الامريكية فرجينيا ملر (V.Miller) في مختبرها في عيادة مايو (مايو كلنك) في منيسوتا كائنات كروية الشكل يتراوح قطرها بين 30 و 100 نانومتر، وذلك لدى المرضى المصابين بتصلب الشرايين، داخل الترسبات المكونة من الكلس والفوسفات على جدران الشرايين.

فهل تعتبر هذه الاجسام كائنات حية؟
حقيقة أم خرافة؟
تقدم فرجينيا ملر اجابة جازمة على هذا السؤال: أنها حية بلا شك. فهي أولا قادرة على التكاثر مستقلة، خارج الخلايا الحية، عند زراعتها مخبريا. ثم أنها قادرة على تصنيع RNA فهي اذن بكتيريا، ولكنها بكتيريا منمنمة، لكن علماء احياء آخرين يعارضون هذا الرأي بشدة، ومنهم جاك منيلوف (J. Maniloff) من جامعة روشستر في ولاية نيويورك. فهو لا يعتبر ان قدرة هذه الكائنات على التكاثر مستقلة دليل كاف على انها كائنات حية. (قبل مئة عام كان العلماء يعتبرونها كذلك) اذ يجب ان يحتوي الكائن الحي على الحمض النووي المنقوص الاكسجين دنا (DNA) وهو ما لم تتمكن ملر من اثباته بعد.

ويعيد هذا الجدل الى الذاكرة حادثا مشابها حصل قبل خمسة عشر عاما، حين اكتشف اولافي كيندر (O. Kajandar) من جامعة كوبيو الفنلندية، بكتيريا منمنمة غريبة في مصل البقر الذي يستخدم تقليديا في زراعة الخلايا مخبريا. كان قطرها نحو مئة نانومتر. وعندما حاول ان ينشر نتائجه رفضت الدوريات العلمية الكبرى قبولها، آخذة على كيندر عدم تقديمه براهين قاطعة على كون كائناته حية. لكنه نجح اخيرا في تسجيل كشفه لدى (المجموعة الالمانية للكائنات الدقيقة).

تابع كيندر ابحاثه على دم الانسان واكتشف وجود كائناته تلك في الترسبات الكلسية في جسم الانسان، وبالذات في الحصيات الكلوية، مما يسمح بتفسير تكون هذه الحصيات. وهنا قبلت دورية مرموقة (PNAS) نشر ابحاثه عام 1998، والتي اهتمت بها اكاديمية العلوم الامريكية وشكلت فرقا من افضل المختصين لتقييم تلك النتائج ومدى انسجامها مع الحجم الادنى للحياة والذي كان يحدد في ذلك الحين ب 250 نانومتر، وكان رد المختصين فيما بعد انهم لم يقبلوا بكائنات كيندر ضمن كائناتهم الحية، لكنهم عدلوا من الحجم الادنى الى قطر قدره 180 نانومتر. ثم تابع باحثون امريكيون فحص تلك الكائات ونشروا نتائجهم عام 2000، وكانت ترفض ما افترضه كيندر من صفات حية لتلك البكتيريا المنمنمة، اذ لم تثبت لهم قدرتها على تصنيع RNA ولم يظهر وجود DNA فيها. واعتبرت القصة منتهية حتى جاءت نتائج ابحاث ملر عام 2004 لتعيد اللعبة الى خانة البداية.

ويجدر التذكير هنا بما اكتشفه علماء ناسا NASA عام 1996 على نيزك مريخي، اذ وجدوا ما يشبه البكتيريا المنمنمة التي اكتشفها كل من كيندر وروبرت فلك.
عن Science et vie كانون ثاني 2005.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق