Powered By Blogger

السبت، 26 نوفمبر 2011

متى تصبح العلوم متحضّرة؟-

المجلة الثقافية- العدد 61
(هل التخصص العلمي مرادف للانغلاق وضيق الافق؟)
ايزابيل ستينغرز (E.Stengers) كيميائية وفيلسوفة ومؤرخة للعلوم. اصدرت عام 2003م، بالاشتراك مع برناديت بنسود- فنسن، كتابا بعنوان:
"100 كلمة لبدء التفكير في العلوم"
وقد اجرت معها مجلة البحث (la Recherche) في عددها لشهر ايلول عام 2003م حوارا تضمن افكارا مثيرة عن العلم وفلسفته، وفيما يلي ملخص للحوار:
- مجلة البحث : يقول هايدغر Heidegger ان العلم لا يفكر. فهل حقا ان النشاط العلمي بعيد بهذا القدر عن التفكير الفلسفي؟
- ايزابيل ستنغرز : يجب اولا ان نميز بين العلوم، بالشكل الذي نعرفها فيه، وبين ما نتخيل انه يمثل "العقلية العلمية". من حيث كونها منطقية وموضوعية... على اكمل وجه.
ان ما نطلق عليه اسم " العلوم" هو نتاج عملية تاريخية وسياسية. ومن الواضح اليوم ان طبيعة تكوين واداء المعاهد والمؤسسات العلمية تبعد الباحثين، كما يبدو، عن التفكير في مجالات خارج تخصصهم، بل ان الابداع العلمي يعتبر انه لا يلقي بالا لتلك القضايا التي تعتبر قضايا عقيمة او هامشية.
ينتج هذا التوجه عن دافعين، احدهما دفاعي – لحماية الحمى أي مجال التخصص العلمي المعني واغلاق حدوده، والآخر هو الرغبة باظهار السلطة دون الاضطرار لاعتبار مجالات المعرفة الأخرى.
لكن هذا لا يمنع وجود علماء (او علميين) يثبتون انهم قادرون على ممارسة علمهم وعلى التفكير به ايضا. فهذان النشاطان ليسا متناقضين او يمنع احدهما الآخر، لكن يصعب التوفيق بينهما في الممارسة العالية للعلوم.

مجلة البحث : هل ان التخصص هو الذي يمنع سعة الأفق وانطلاق التفكير؟
- ايزابيل ستنغرز : ان التخصص في دراسات العلوم يمارس منذ سنوات عديدة. لكنه اليوم اصبح اضيق واضيق. اصبح يقسم كل مجال علمي الى جزر صغيرة منفصلة. اصبح الخبراء في أي موضوع "معاصر" يندفعون معا للأمام، مثل رهط من كلاب الصيد المندفعة خلف طريدة. وتحافظ المجموعة على تماسكها بفضل سرعتها في الاتجاه نفسه. وهي تتفادى كل ما يمكن ان يبطيء حركتها. وهو التفكير!
هذا هو السبب الذي يجعلني اشعر بخيبة الامل من العلم في وضعه الحالي. ان نتاجه من الذكاء الجماعي يتناقص باستمرار، واعني بذلك خلق الوعي بالتعددية وممارسة التبادل بين المجالات المختلفة بحيث يشعر كل من يدرس قضية ما انها تهم مجموعات اخرى، وانه قد يفيدهم او يستفيد منهم. اصبح هذا النوع من الذكاء ضحية انماط الانتاج العملي السائدة حاليا.
مجلة البحث : اليس هناك ايضا تحول في طبيعة المهنة العلمية بسبب ضخامة الامكانيات التقنية المتاحة؟
(يوظف الباحثون حاليا وينشغلون بتجارب ضخمة فيحرمون من حرية تشكيل افكارهم وقضاياهم البحثية الخاصة بهم).
- ايزابيل ستنغرز : لا شك ان العلم قد تطور باتجاه ما يمكننا تسميته "العلم الكبير": مشاريع بحثية ضخمة، واصبحت الآلة او التقنية الجديدة هي التي تفرض وتصيغ برنامج البحث. خذ مثلا تقنية التصوير الدماغي والامكانات التي اتاحتها فدفعت الباحثين تجاه تحقيقها دون ان يفكروا مليا ومسبقا في اتجاهات ابحاثهم.
ان هذا هو ما يميز العلم منذ بضعة عقود من الزمن: الابتكار التقني يسبق عملية طرح الاسئلة، اصبح الباحث يسعى لاستغلال الآلة الموضوعة تحت تصرفه ليخرج بنتائج يمكنه نشرها. تتراكم المعطيات والنتائج باستمرار، لكن ما هي الاجوبة المهمة التي تقدمها لنا؟
مجلة البحث : كيف يمكن للعلماء الذين فقدوا الاتصال مع بعضهم البعض ان "يصبحوا متحضرين"؟
- ايزابيل ستغرز : السؤال الأساسي، الذي نادرا ما يُطرح، هو كيف نغير عاداتنا؟ لا اعتقد ان العلماء قادرون على تحقيق ذلك لوحدهم. لان عاداتهم الحالية ناتجة عن "عقيدة" الاستقلالية والتوحد لديهم. لكن هناك شيئين حاليا يدفعانهم للتحرك : اولهما قلقهم تجاه السياسات العلمية الحالية. والشيء الثاني هو الرغبة في العودة الى ذلك "العصر الذهبي" حين كانت استقلالية العلماء مصانة محترمة باسم التقدم التقني والصناعي وبالتالي التقدم الاجتماعي الذي ينتج عنهما تلقائيا. كان هناك تطبيق لسياسة التقدم. لكن تحقيق هذه الرغبة يتطلب تغييرا في العادات.
مجلة البحث : ما رد فعل علماء الاحياء الجزيئية عندما يبدأ احد زملائهم نقاشا يفتح الطريق نحو اتجاهات جديدة؟
- ايزابيل ستنغرز : انهم يثورون. واذا كتب احدهم نقدا موجها نحو اساليب بحث جديدة واصفا اياها بانها كما يبدو تتخذ مسارا خاطئا، فانهم يردّون انهم يعرفون ذلك، وانه يبالغ، وان ما ذكره لا يجب ان يقال علانية، وعلى أي حال يجب ان تكرس الجهود للعمل وليس للجدل. والعمل يعني مواصلة تجميع المعطيات ومراكمتها، حتى اصبح واضحا للجميع بان ذلك الطريق السلطاني، طريق الجينات، يدخلنا في متاهة.
لم يعد علماء اليوم يتحلون بالتسامح تجاه الحيرة والشكوك. اصبحوا يشعرون براحة ويتصرفون على طبيعتهم، في منتدى علمي، اكثر مما يشعرون ويتصرفون في جلسة دردشة في مقهى.
مجلة البحث : الا يجب ايضا تعديل مناهج وطرق تدريس العلوم لجعلها اجتماعية اكثر؟
- ايزابيل ستنغرز : المشكلة هي ان العلماء هم الذين يقررون طريقة نقل معارفهم نحو الغير، نحو الطلبة. وينقلون اليهم معها عاداتهم ايضا. ومن هذه العادات او الاتجاهات قطع العلاقة بين العلم والرأي. في السابق كانوا يقولون "انا اعتقد ان ..." والآن يقولون " نحن نعلم ان .."
- لن يكون العلم مجددا ومثيرا اذا اقتصر دوره على الاجابة على اسئلة طرحت في السابق، وانما يلزمه ان يطرح هو نفسه اسئلة وان يجيب عليها. انه هكذا يضيف الى المعرفة السابقة بدلا من ان يحل محلها. لكن العلوم الحالية، وبهدف فرض سيطرتها خارج مجال المعارف التي اوجدتها، تعمد الى الكذب او السخرية او اتهام الافكار التي تخرج عن مجالها بالخرافة، فمنذ ايام باستور لم تعد الامراض تدرس علميا الا باعتبار العوامل والجراثيم الممرضة والمواد الكيميائية الفعالة. فاين اصبحت كل الاسئلة الاخرى، وخاصة فيما يتعلق بقدرات الانسان على تحقيق الشفاء بطرق غير طبية او دوائية؟ يقول العلميون ان هذا مجال الدجالين، بدلا من ان تدرس هذه الطرق وتعامل باحترام يشبه ما تُعامل به الطرق التجريبية.
مجلة البحث : وكيف العمل لتفادي هذا "الانفصام" في تدريس العلوم؟
- ايزابيل ستنغرز : يجب ان ندفن الفكرة القائلة بوجود منهجية عقلانية تفسر المعارف العلمية. يجب اعادة بناء تاريخ العلم. فتاريخ العلم الحقيقي عبارة عن مغامرات مثيرة. آمل ان يروي المعلمون هذه المغامرات لتلاميذهم. فالثقافة العلمية الحقة والمطلوبة ليست ثقافة نتائج ومعادلات وقوانين ومبادئ. وانما هي التي تمكّن من فهم المغامرات المثيرة لأولئك الذين انتجوها.
(اجرت المقابلة إلزا برون)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق