Powered By Blogger

السبت، 26 نوفمبر 2011

عندما يُضرب الباحثون

التقرير العلمي- المجلة الثقافية- العدد 63
حيدر مدانات م. حسام مدانات
جريدة الرأي دائرة الاراضي


شهدت فرنسا في الاشهر الاولى من عام 2004 حركة احتجاج تاريخية قام بها الباحثون العلميون. وبعد مواجهة ساخنة مع السلطات الحكومية، حصل الباحثون على مطالبهم فيما يتعلق بالتمويل والوظائف. لكن هذه الجوانب المادية تُخفي خلفها مشاعر قلق يعاني منها الباحثون تجاه قدرتهم على المنافسة في سوق الابحاث الدولية وما تتضمنه من هموم المنافسة والنشر العلمي والوظائف المستقرة الثابتة، وقد أمضت مجلة البحث (لارشيرش) الفرنسية بضعة ايام مع الباحثين في مختبرات علم الانزيمات والاحياء البنائية في (جف سيرإيفت)جنوب العاصمة الفرنسية باريس، والتي تتبع للمركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، لتخرج بصورة واقعية لمشاكل البحث والباحثين، والتي نلخصها فيما يلي، بعد استعراض بعض اهم تطورات هذه
- في آذار 2004 استقال 3500 مدير بحث ورئيس فريق بحثي، من مناصبهم الادارية في فرنسا. وخرج آلاف الباحثين في مسيرات احتجاجية في باريس وفي عدة مدن اخرى يهتفون : "انقذوا البحث العلمي"، ورافقتها عبارات مشابهة اخرى على شبكة الانترنت.
والواقع ان البحث في فرنسا يعاني من مشاكل متراكمة منذ سنوات عدة. لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت قرار الحكومة بالغاء 550 وظيفة دائمة في مركز الابحاث الحكومية (او بالاحرى تحويلها الى وظائف مؤقتة) وفاقم الامر قرار آخر بتجميد موازنات الابحاث.
وفي السابع من نيسان 2004 اعلن الوزير الجديد للتربية الوطنية والتعليم العالي والبحث، فرانسوا فيّون، عن اجراءات استثنائية وفورية لصالح البحث العلمي، فاعاد الوظائف الثابتة الملغاة اضافة الى 1000 وظيفة جديدة. معظمها في الجامعات، وخضع لكافة مطالب الباحثين.
خفّ التوتر وانفرجت الازمة بعد ان تركت بصماتها، لكن الكثيرين يرون ان هناك حاجة لاصلاح جذري في مجال البحث حتى تعود فرنسا الى موقعها المنافس ضمن الدول المتقدمة علميا.
وعلى سبيل المقارنة نجد ان حصة البحث العلمي من الدخل القومي في فرنسا 2.2% مقابل 4.3% في السويد، 3.1% في اليابان، 2.7 في الولايات المتحدة.
كما ان نسبة عدد الباحثين الى مجموع الايدي العاملة تقل في فرنسا كثيرا عن مثيلاتها في الدول الثلاث المذكورة سابقا.
أسبوع مع الباحثين في مختبراتهم
رغبت مجلة البحث في التعرف على الاحباطات التي يعاني منها باحثو فرنسا، وكيف يتصرف مسؤولو فرق الابحاث للتكيف مع الواجبات والقيود الادارية والمالية، وكيف يتدبر فريق البحث اموره رغم اضطراره لتغيير عدد من افراده من وقت لآخر، لانهم موظفون مؤقتون. فامضت المجلة بضعة ايام مع الباحثين في مختبر علم الانزيمات الذي تعمل فيه تسع فرق بحثية تضم 75 شخصا منهم 25 باحثا، يدرسون مواضيع مثل البريونات (التي تسبب جنون البقر) او الجزيئات المسؤولة عن موت الخلية. ويتضمن عملهم بلورة بروتينات ج (1) من اجل فهم آلية عملها.
رافقت المجلة الباحثة جاكلين شيرفيس (37 عاما) مسؤولة فريق بروتينات (ج) في اثناء عملها الذي يتضمن جمع المقالات ذات العلاقة من شبكة الانترنت. اذ لا احد يمكنه العمل في البحث العلمي دون الاطلاع على عمل الآخرين. والواقع ان جاكلين اكتشفت هذا الموضوع واختارته عن طريق الانترنت. وهوموضوع حديث ومهم وتنشر الابحاث المتعلقة به بسهولة. والنشر امر اساسي وحيوي للبحث (انشر حتى لا تندثر) (publish or perish). وقد نشرت جاكلين مقالة في مجلة الطبيعة (Nature) عام 1998، مما ساعدها في الحصول على دعم مالي من جمعية ابحاث السرطان (ARC).
والواقع ان المخصصات المالية الحكومية غير كافية، فمثلا عليها السعي لدى عدة مؤسسات خاصة للحصول على دعم قدره 300,000 يورو لشراء رابوطات لبلورة الجزيئات. وتكمن مشكلة تحصيل الدعم في ان معظم تلك الهيئات الخاصة لا تقدم دعمها الا اذا كان البحث والتطبيقات عملية لها علاقة بمجال عملها، ويندر ان نجدمؤسسة تقدم تمويلا لابحاث نظرية بحتة.
وبعد بضعة ايام نجحت جاكلين في تحصيل 25% من ثمن الرابوطات. وتابعت سعيها للحصول على باقي المبلغ، فهي قد اصبحت خبيرة في اساليب طلب الدعم المالي، لان المركز الوطني للبحث العلمي لا يمول اكثر من ربع تكلفة الابحاث، اذ أن عليه تقديم الرواتب والمختبرات. لكن هذه الجهود لتحصيل الدعم لها جانبها المظلم : فهي تستهلك اكثر من نصف وقت مسؤول فريق البحث، ما بين اعداد طلبات الدعم والتقارير الدورية لتقدّم العمل وتقارير مالية تبين كيفية انفاق الدعم. والواقع ان 80 % من الجهد البحثي يتكفل به الدكاترة الجدد اي الحاصلون حديثا على الدكتوراة (Post-doctor) والمعيّنون بصفة مؤقتة. ويقود هنري غزوجن (63عاما) فريق بحث علم انزيمات (RNA) ويدرس قواعد ترجمة جينوم البكتيريا التي تعيش في الينابيع الحارة حتى على 100 درجة سلسيوس، ولم يستطع اقناع مؤسسات خاصة بدعم بحثه لانه لا يبدو ذا تطبيقات عملية مباشرة. وهو يشير الى ان السلطات الحكومية، ممثلة بالمركز الوطني للبحث العلمي، كانت قبل عشرين عاما تدعم الابحاث العلمية دعما ماليا كاملا.
واخيرا، لنا ان نتساءل كيف يمكن للباحث ان يكرّس وقته وجهده لبحثه اذا كان تفكيره مشغولا في كيفية تدبير الدعم والتمويل، واذا كانت وظيفته مؤقتة وكان معرضا لفقدها في اية لحظة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق