Powered By Blogger

السبت، 26 نوفمبر 2011

أنجع الوسائل في معاقبة الأوائل ... وعائلاتهم

حسام جميل مدانات

تلقى أبو سالم تهاني الأقارب والأصدقاء بنجاح ابنه باسل في التوجيهي، وبحصوله على علامة عالية، 95%. لكن مشاعر السعادة لديه كادت تقضي عليها أحاسيس غامضة بالقلق. فابنه لا يخفي طموحه بدراسة الطب. وبهذا المعدل "المنخفض"، فانه فقد كل أمل في أن يقبل بالرسوم العادية، أي بالبرنامج النظامي. والبديل هو البرنامج الموازي.

كان أبو سالم قد تقاعد لتوه بعد أن منح الدرجة الخاصة، بعد 40 سنة من الخدمة الحكومية ، لكن صافي راتبه التقاعدي لا يتجاوز 500 دينار، وعليه أن يدفع منه الأقساط الجامعية " النظامية" لابنه الأكبر وأقساط البرنامج الموازي في الطب وهي 2800 دينار في الفصل الواحد، أي نحو 700 دينار شهريا. ومما جعل هذا الوضع المستحيل أكثر استحالة، أن أبا سالم لم يكن يملك أية عقارات موروثة أو مكتسبة يمكنه بيعها أو رهنها. وهل يمكن أن يجد بنكا يقبل أن يمنحه قرضا أو قروضا يبلغ مجملها نحو سبعين ألف دينار عدا فوائدها، وأن يبدأ تسديدها بعد ست أو سبع سنوات؟ لكن بما أن شعبنا يؤمن بالمثل القائل أن الزواج والعمار والدراسة ميسرة.. ف... ربك بيسرها.

بدأ أبو سالم مساعيه للحصول على مكرمة أو منحة أو قرض، بين آلاف المنح التي أعلنت عنها وزارة التعليم العالي، ليكتشف أمرا طريفا: انه يمنع منح من يدرسون الطب بالبرنامج الموازي أية بعثات أو منح أو قروض! والحل: أن يستغل كل دقيقة من وقته في اي عمل يدر بضعة دراهم. خطر ببال أبي سالم المثل الانجليزي، "الحياة تبدأ في الستين"، فالمتقاعد لديهم يستطيع أن يبدأ الاستمتاع بحياته كما يريد، وهو لايتحمل مسؤولية التعليم الجامعي لأولاده، أو يقلق بشأن تأمينه الصحي أو راتبه التقاعدي. ولكن بالنسبة لأبي سالم فإن عهد العبودية والشقاء قد بدأ في الستين.



بدأ أبو سالم رحلة تقشف في منزله، خبز وزيت وزعتر على الفطور، وعلى الغداء، وعلى العشاء. ثم اختفى الزيت والزعتر ليبقى الخبز الحاف. وليصبح كل ما عدا ذلك من الكماليات. وأصبح التساؤل الملح يدور في رأسه على الدوام، هل أستحق هذه الأشغال الشاقة؟ هل يستحق المواطن الأردني هذه البهدلة؟ هل يستحق الموظف الحكومي وعائلته هذه المعاناة؟ ما الذي يحدث في الأردن؟ وحتى متى يعاني طالبنا المتفوق والمتميز من هذا النهب؟ ولعل هذا الشعور هو الذي تبلور لدى أبنائنا الطلبة من خلال تلك الحركة التي أطلقت على نفسها اسم "ذبحتونا".

طوال عشرات السنين من عمر الأردن الحديث، كان أوائل الطلبة يحصلون على بعثات جامعية، تتحملها الحكومة أو تحصل عليها من دول أخرى، أو توفرها الأحزاب السياسية، وبهذه الطريقة بني الأردن المثقف والغني بشبابه الجامعي من مختلف التخصصات، الذين عوضوا وطنهم عن نقص موارده، وعملوا في الغربة ليرفدوا بلدهم بتحويلات مالية سخية.

إن الدراسة الجامعية مجانية أو شبه مجانية في معظم الدول العربية لمواطني الدولة، وفي بعضها لكافة الطلبة، المواطنين والوافدين على السواء. والدراسة الجامعية مجانية في فرنسا وفي المانيا ... والمضحك المبكي في قصة البرنامج الموازي، لدراسة الطب بشكل خاص، أنه قد أصبح عمليا هو البرنامج الوحيد: يقبل 10% أو 20% من الطلبة، عن العين، حسب البرنامج النظامي، ورسومه ليست بسيطة. ويقبل معظم الطلبة على البرنامج الموازي، ورسومه 150 دينارا للساعة المعتمدة؛ أو ضمن البرنامج الدولي ورسومه 200 دينار للساعة. وبالطبع يضاف لرسوم الساعات المعتمدة عدة بنود مفتعلة لا يستفيد معظم الطلبة منها: رسوم حاسوب، مكتبة، تأمين صحي، نشاطات طلابية، مطبوعات،الخ.

حتى لا تزيد الهوة بين الأطباء والمجتمع

يراقب باسل الوضع المأساوي الذي جر عائلته اليه، وتتراكم المرارة في قلبه، مرارة تجاه جامعته، وتجاه الحكومة الرشيدة، ومرارة تجاه الوطن الذي دمر والده وعائلته.

يقرأ باسل ويسمع عن الشجارات والمشكلات التي تحصل باستمرار بين الأطباء والمرضى ومرافقيهم، وبدأ يستنتج أحد أسباب هذه الهوة التي تتوسع يوما بعد يوم بين المواطن والطبيب. هذا الطبيب الذي سلخه الوطن وجلده وجلد عائلته خلال دراسته الجامعية. وهي الدراسة الأطول زمنا والأصعب والأكثف مواد. ولا نبالغ أن قلنا أن حجم المادة التي يدرسها طالب الطب خلال سنة واحدة يعادل ما يدرسه بعض التخصصات الجامعية في السنوات الأربع مجتمعة. هذا عدا عن مستوى الصعوبة والتعقيد فيها.

وكأن سنوات العذاب الدراسي والمالي لا تكفي بحد ذاتها، فنجد أن خريج الطب يجب أن يداوم سنة كطبيب مقيم وبراتب الكفاف. وإذا أراد التخصص فعليه قضاء بضع سنوات أخرى في جامعة أجنبية غالبا..

هذا عدا عن السيف المسلط على رأس طالب الطب (في بعض جامعاتنا على الأقل)، إذ أن رسوبه في مادة واحدة يعني إعادته السنة كاملة!؟

إذا كانت الحكومة وإدارة الجامعات تعتقد أننا لا نحتاج الأطباء، أو لا نريد لطلبتنا المتميزين أن يدرسوا الطب، وأننا لسنا بحاجة لأطباء جيدين، فان عواقب ذلك ستكون خطيرة وسيئة وستقع على رأس كل واحد منا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق