Powered By Blogger

السبت، 26 نوفمبر 2011

ما سر الحمام الزاجل؟

(
(المجلة الثقافية- عدد مزدوج 64/65)


قبل تطور وسائل الاتصال الحديثة، كان الحمام الزاجل من الطرق السريعة الفعالة لنقل الرسائل عبر مئات الكيلو مترات، فكيف كان هذا الحمام يحدد طريقه ويصل الى وجهته الصحيحة؟

منذ أربعينات القرن الماضي كشفت دراسات علماء الطيور عن وجود آليتين تساعدان الحمامة الزاجلة على العودة الى بيتها دون خطأ. أولاهما تحديد الاتجاه الرئيسي، كما يفعل الملاح عندما يستخدم البوصلة، والثانية لتحديد الموقع بدقة بالاستعانة بمعالم واضحة، مثلما تحدد موقعك مستعينا بالخريطة.

تحدد الحمامة الاتجاه الرئيسي بفضل الشمس والمغناطيسية الأرضية. أما المعالم التي تساعدها على تحديد موقع بيتها فهي دلائل بصرية وسمعية وشمية معا.

تمكن الانسان من ترويض الحمام واستئناسه منذ آلاف السنين، ويتميز الحمام الزاجل بارتباطه الوثيق ببيته. واذا أطلق على مسافة كبيرة من بيته فانه يعود غالبا اليه حتى لو بلغت المسافة مئات الكيلومترات. لكن لوحظ انه يجد صعوبة في العودة لبيته اذا كانت السماء مغطاة بالغيوم، مما يدل على أهمية الشمس لتحديد اتجاهه.

افترض العلماء ان الحمام الزاجل يقدر موضعه اعتمادا على ميل الشمس، آخذا بالحسبان الساعة والتاريخ اللذين يعتمد عليهما ميل أشعة الشمس في لحظة معينة. لكن مثل هذه الآلية تفترض توفر حس دقيق بالزمن لدى الحمام. وبالفعل فان الحمامة تعدل اتجاهها بالنسبة للشمس حسب الساعة. فهي تمتلك ساعة داخلية حيوية مرتبطة بتعاقب الليل والنهار وطول كل منهما، بالنسبة للآخر، حسب اليوم والفصل من السنة.

ويمكن التلاعب بهذه الساعة الحيوية، تقديمها أو تأخيرها، عن طريق تعريض الحمامة لضوء اصطناعي قوي يطيل النهار أو يقصره.

وفي هذه الحالة، عند اطلاق الحمامة على مسافة كبيرة من بيتها، فانها تتخذ اتجاها خاطئا.

لكنها غالبا ما تصحح اتجاهها فيما بعد، مما يدفع للاعتقاد بأن الشمس لا تفيدها الا في اعطائها مؤشرا على الاتجاه بشكل عام وليس في حساب موقعها الجغرافي (خط الطول والعرض) بدقة. ومن ثم فانها تستعين بعناصر أخرى لتصحيح توجيهها. فهي مثلا تقارن اتجاه وموقع الشمال المغناطيسي في موقعها الحالي بموقع الشمال المغناطيسي بالنسبة لبيتها.

ويدعم هذه النظرية اكتشاف، تم عام 1979، لكتل من أكسيد الحديد المغنطيسي داخل رأس الحمامة، بين دماغها والجمجمة. ةتعمل هذه البلورات الصغيرة عمل البوصلة في توجيه الحمامة الزاجلة.

أما الآلية الثانية المتمثلة في تحديد الموقع بدقة فتتضمن استعانة الحمامة بجميع حواسها. وتدل التجارب على انها ترسم لنفسها خريطة لرائحة بيتها وتربط بها الروائح التي تحملها الريح لأنفها. وعند اطلاقها على مبعدة من بيتها، فانها تبدو قادرة على اتباع تسلسل تلك الروائح. وعندما جرى التلاعب بحاسة الشم لديها، مثلا عن طريق اشباع فتحتي الانف بروائح قوية، فانها كانت تعاني من صعوبة في ايجاد طريقها. وتتضمن آلية تحديد الموقع أيضا الاستعانة بحاسة السمع. فقد تبين ان الحمامة تسمع أصواتا ذات تردد منخفض جدا لا تشعر به أذن الانسان. وهي بالتالي تكون لنفسها خريطة سمعية لموقعها تشمل الاصوات المنخفضة التردد الناتجة عن أمواج البحر وعن الرياح وحتى عن النشاط الزلزالي للأرض.

دور قرن آمون في الدماغ
حتى يتوصل العلماء الى حكم صحيح قاطع بهذا الشأن، كان لا بد من مراقبة النشاط الدماغي للحمامة الزاجلة أثناء رحلتها. وقد تحقق هذا الانجاز او يكاد. فقد اثبت فريق من علماء الطيور في ايطاليا بان معالجة المعلومات المكانية تجري في جزء من دماغ الحمامة يدعى قرن آمون (hippocampus) ويقع في الفص الصدغي من الدماغ. ومن المؤمل ان تتوصل هذه الابحاث الى طرق علمية لتدريب الحمام الزاجل لتحقيق نتائج أفضل وعلى مسافات أطول. او حتى لتطوير عقار قادر على التأثير على سلوكها. وقد استعان الباحثون مؤخرا بأجهزة نتع (نظام التوقيع العالمي GPS) المرتبطة بالأقمار الصناعية، ألصقت على ظهر الحمامة، لمتابعة مسارها باتجاه بيتها. ودلت هذه الدراسة على ان الحمامة تستعين ايضا بنظرها لترسم خريطة لمختلف المعالم ذات العلاقة بطريقها وبوجهتها النهائية. وكانت تجارب أخرى سابقة قد ألقت بالشك على دور البصر في تحديد طريقها، اذ قام باحثون بوضع عدسات على عيني الحمامة تشوه المنظر او تحجب الرؤية، ورغم ذلك نجحت في الوصول الى بيتها.

وعلى اية حال، فاننا على الرغم من التقدم الهائل في وسائل الاتصالات والأبحاث العلمية، الا ان الحمام الزاجل لم يكشف لنا بعد عن جميع أسراره.

عن Science et vie
آذار 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق