Powered By Blogger

الثلاثاء، 12 يونيو 2012

الفراغ يملأ حياتنا
م. حسام جميل
العرب اليوم/ الثلاثاء، 12 حزيران، 2012
الفراغ، الخواء، الخلاء، الفضاء، العدم، اللاشيء، الصفر، البلقع، الصفصاف (قاعا صفصافا)... هي بعض التعابير التي تحفل بها لغتنا لتدلنا على حالة غياب المادة. لكن هل يوجد في الطبيعة ما يمكن اعتباره فراغا تاما؟ وهل توصل الإنسان إلى صنع الفراغ المطلق؟
قبل أكثر من ألفي سنة، قال أفلاطون وأرسطو أنه لا يوجد شيء اسمه الفراغ. فالفراغ هو لا شيء. واللاشيء لا يمكن أن يوجد، أن يكون شيئا ما.
ولم يكن الانسان يتخيل أن الضوء يمكن أن يصلنا من الشمس عبر الفراغ، لذلك افترض وجود مادة اسماها الأثير، حتى ثبت من تجربة مورلي/مكلسون أن لا وجود لهذا الأثير المفترض.
سنعرض فيما يأتي باختصار للفراغ في مختلف المجالات، وبمعانيه الحقيقية والمجازية. ولنبدأ أولا بالمعنى الفيزيائي، الذي يتضمن تعقيدات لن نتطرق اليها هنا إلا تلميحا.
الفراغ في الفيزياء
نعلم أن الهواء يحيط بنا ويملأ كل حيز لا يوجد به مادة صلبة أو سائلة. بل حتى أنه يوجد بين جزيئات السائل. فالسمك يتنفس الأكسجين المذاب في الماء. وتبلغ الكثافة العددية للهواء من حولنا 25 مليون مليون مليون جزيء في كل 1سم³! والحصول على الفراغ يعني التخلص من الهواء الموجود في حيز معين، وهذا ليس بالأمر الهين. فمكنسة الشفط الكهربائية مثلا لا تفرغ أكثر من خمس الهواء داخل أنبوبها.
وأنت عندما تمتص العصير بمصاصة، فأنت في الواقع تمتص بعض الهواء منها فيقل ضغطه ويرتفع السائل في المصاصة بفضل الضغط الجوي الواقع على سطح السائل. وبالمثل فإن المضخة التي ترفع الماء إلى أعلى سطح المنزل تعتمد على تحقيق فراغ جزئي في الأنبوب.
ولعل أفضل فراغ توصل له الانسان في المختبر هو مئة جزيء هواء لكل 1سم³. أما في الفضاء الخارجي فتجد بضع ذرات هيدروجين في كل متر مكعب. وحتى لو تمكنا نظريا من تحقيق الفراغ المطلق، فإن الفيزيائيين يعتقدون بأن هذا الفراغ سيحتوي على المادة المعتمة وموجات الفراغ التي افترض وجودها هندريك كسيمير عام 1948.
أخيرا تذكّر أن الجوّ من حولنا ليس فارغا، وإنّما هو مملوء بكمّ هائل من الموجات التلفازية والإذاعية والهاتفية الخلوية. لكننا لا نرى هذه الموجات ولا تحس بها حواسنا الإنسانية القاصرة
في الرياضيات
الصفر في الرياضيات يعبر عن الفراغ، عن اللاشيء. ونعلم أهمية الصفر. فالنظام الرقمي الثنائي مثلا يقوم على رقمين: الصفر والواحد، وعليه بني علم الحواسيب والانترنت والأجهزة الرقمية. ولا ننسى أهمية المجموعة الخالية في نظرية المجموعات في الرياضيات.
في الاقتصاد
يتمثل الفراغ في الاقتصاد العالمي، والمحلي لدينا في مظاهر متنوعة. فالبورصات الوهمية التي نصبَ فيها البعض على آلاف المواطنين هي استثمار في خواء، في لا شيء. ولا ننسى أن مؤسسات عالمية وقعت في مصيدة مشابهة مع الأمريكي مادوف، الذي جعل خمسين مليار دولار تختفي. وبالمثل فيمكا يتعلّق بأسهم بعض الشركات المساهمة الوهمية. بل حتى الدولار الأمريكي يمكن اعتباره عملة قائمة على فراغ؛ إذ بإمكان أمريكا أن تطبع منه الكمية التي تريد دون غطاء من الذهب أو غيره.
في السياسة
الأول: هل تعلم أن الرئيس ألقى خطابا أمس استمر 6 ساعات؟
الثاني: وما موضوع الخطاب؟
الأول: لم يقل!
لعل هذه الطرفة تلخص مقدار الخواء الذي تتضمنه خطابات العديد من الزعماء في عالم اليوم. ومن ذلك أيضا تصريحات الاستنكار والشجب والإدانة التي تملأ صحفنا ولا تعبر عن شيء. ونجد في قاموس السياسة العالمية مصطلح "ملء الفراغ". فبعدما انحسرت الامبراطورية البريطانية وانسحبت من معظم مستعمراتها، ملأت الولايات المتحدة الفراغ مكانها في عدة دول.
في الصحافة والإعلام
في الستينيات، كانت الصحف اليومية الأردنية: الجهاد والدفاع وفلسطين تصدر في 4 صفحات. وكان كلّ ما يُكتب فيها يُقرأ. واليوم تجد بعض الصحف اليوميّة تصدر في قرابة مئة صفحة، وأقصى ما تطمح اليه هو أن يقرأ البعض عناوين الأخبار والمقالات. وقد لا يقرأ بعض المقالات سوى من كتبها، وقد يكون هذا المقال منها! وهي في النهاية لا تقول شيئا. لا تخبرك بشيء. إنه الفراغ بحجم كبير. انه الكمّ على حساب النوع.
وبالمثل فيما يتعلق بالتلفاز. تجد مئات الفضائيات التي تبثّ على مدار الساعة. فلم يعد بإمكانها، ولم يعد مجديا اقتصاديا، أن تقدم شيئا جدّيّا متعوبا عليه. إنه الفراغ يملأ آلاف ساعات البث، ويخلق الفراغ في عقول المشاهدين.
ومن أمثلة الانتاج الفني الفارغ نجد ما يسمّى بأفلام الحركة أو الآكشن. فهذه التسمية تغطّي على كون هذه الأفلام تتصف بفراغ مطلق في المحتوى. ويقال أن بعض أفلام الآكشن قد صُنعت كاملة، خلال بضعة أيام، داخل غرفة الاستديو، من قصاصات مشاهد أفلام سابقة!
في الطبّ
يصف الطبيب أحيانا لمريضه دواء لا يحوي أية مادة فعّالة. يدعى مثل هذا الدواء ب"الغُفل" Placebo . ويلجأ الطبيب لهذه الممارسة إذا اعتقد أن مشكلة المريض نفسية و"وهم"، وليست عضوية جسدية. إنّه إذن علاج بالفراغ. وعلى غرار ذلك نجد أساليب العلاج بالحجب والشعوذة، وربما أيضا بعض الأعشاب. ووصل الأمر في العلاج الفارغ إلى الجراحة؛ فقبل 20 أو 30 سنة كثر الحديث عن جرّاحين في شرق آسيا يجرون عمليات بأصابهم المجرّدة، دون استخدام المبضع أو غيره من أدوات الجراحة.
في البيئة
الفراغ في البيئة مهم. وكل حيوان، أو حتى نبات، بحاجة إلى محيط حيوي خاص به. وعلى مستوى المجتمعات البشرية نجد أن "الزحام يعيق الحركة"، ويخنق ويعمي ويصم الآذان.هذا الحيّز الضروري سنفتقده قريبا في عمّان التي تتحوّل سريعا إلى مخيم، إلى علبة سردين.
في الحياة والموت
الموت هو انعدام الحياة، هو العدم. لكن انظر كم تحمّل المصريون القدامى من تضحيات لإنشاء الأهرامات المكرسة لجثث الفراعنة. إنه عدم مكلف. وبالمثل في مجتمعنا الحالي؛ فحالات الوفاة تكلف أهل المتوفي أكثر مما تكلفهم أسباب المعيشة لسنة أو أكثر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق