Powered By Blogger

الثلاثاء، 19 مارس 2013

علماء يونان، أم رومان، أم مصريون، أم عرب؟

كتب المحرر العلمي، العرب اليوم، 19/3/2013 لعل ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة عبارة وردت في الهامش السفلي لإحدى الصفحات الأولى من كتاب أصول في المساحة (1983) للأستاذ الدكتور يوسف صيام. تقول هذه العبارة التي وضعت تعليقا على معلومة عن العلماء العرب الذين برزوا في مضمار المساحة: " كثير من هؤلاء العلماء المسلمين من أصل غير عربي، وعلى أي حال فهم جميعا مسلمون، وبالتالي فالأصح أن نقول " العلماء المسلمون" بدلا من " العلماء العرب" احتراما للأمانة العلمية. في حين يورد المؤلف في صفحة سابقة: " في القرن الثاني قبل الميلاد ظهر العالم اليوناني الشهير هيرون..." وفي صفحة لاحقة نجد العبارة: " وجاء من بعده العالم اليوناني ايراتوستين (الذي قاس قطر الأرض)". نشعر أن الأستاذ المؤلف لم يلتزم هنا "بالأمانة العلمية" التي ذكرها، ولم يقس بمقياس واحد، ولم يكن منصفا تجاه التراث العربي والحضارة العربية. وتوضيح ذلك كما يلي: إن العالم اليوناني هيرون، أو هيرو، يعرف باسم هيرو الاسكندري، عاش في القرن الأول بعد الميلاد في الإسكندرية وكان عالما في الرياضيات ومهندسا ومخترعا. صنع أول آلة بخارية، لكنه لم يسعَ لاستغلالها لأغراض عملية، كما أنه صنع دولابا تحركه الريح. وعمل معلما في مكتبة الإسكندرية؛ كما أنه (حسْبَ كتاب اصول في المساحة) أصدر عدة مقالات هامة تناولت ربط أعمال المساحة الحقلية بمستلزمات الرسم والحساب، وعرضت وصفا دقيقا لأول جهاز مساحة عرفه الإنسان. هيرو هو إذن مصري من الإسكندرية، ولد وعاش واخترع وعلّم ومات فيها. وكان ذلك خلال الحكم الروماني. ومع هذا لم يعتبره الأستاذ صيام ولا كتب التاريخ روميا ولا مصريا، لسبب بسيط، هو أنه كان يتكلم اليونانية، ويكتب بها، وينهل من ثقافتها، التي أسس لها الإسكندر المقدوني قبل ذلك بأربعة قرون حين فتح بلادنا. وماذا بشأن ايراتوستين (أو إراتُسثينز)؟ يخبرنا التاريخ أنه ولد في القيروان، في تونس، عام 276 ق.م. ثم انتقل إلى الإسكندرية، مركز العلم والثقافة والحضارة حينئذ. كان أول من قاس قطر الأرض، حين قدّر المسافة بين أسوان والإسكندرية وقاس زاوية ميل الشمس في الإسكندرية في اليوم الذي تكون فيه رأسية في اسوان. وهي تمثل الزاوية المركزية (في مركز الأرض) المقابلة للمسافة (القوسية) بين المدينتين. وبمعرفة الزاوية وطول القوس يمكن حساب قطر الأرض بسهولة. والشيء الغريب أن النتيجة التي توصل إليها قريبة جدا من القيمة المعتمدة حاليا. والآن، هل نعتبر اراتسثينز تونسيا، لأنه ولد في تونس؟ أم مصريا لأنه عاش ومات في الإسكندرية؟ أم عربيا باعتبار تونس ومصر دولتين عربيتين حاليا؟ أم يونانيا لأنه عاش في كنف الحضارة اليونانية وكتب بلغتها؟ الواقع أن التاريخ (والأستاذ صيام) يعتبره يونانيا، فالمقياس هو الحضارة التي ينتمي إليها واللغة التي يكتب بها. ومن العلماء "اليونان" البارزين الآخرين نجد بطلميوس (بطليمُس) (90 – 168 م) وهو رياضياتي وفلكي وجغرافي عظيم؛ عاش في الإسكندرية وكتب باليونانية. فاعتبره التاريخ يونانيا رغم أنه مصري بامتياز. ونذكر أخيرا أبا الهندسة " إقليدس الاسكندري" (323 – 283 ق.م) الذي ينسب اليه كتاب "العناصر" الذي بقي أهم كتاب في الرياضيات حتى القرن التاسع عشر. نصِفه بأنه عالم يوناني (رغم أنه مصري بمعنى الكلمة) وذلك لمجرد أنه عمل وأبدع في كنف الحضارة اليونانية. فلماذا إذن لا نكون منصفين، ولماذا لا نقيس بهذا المقياس نفسه، حين نتحدث عن علمائنا مثل الخوارزمي وابن سينا والرازي، ولماذا هذه النزعة التي تسود حاليا في نفي صفة العروبة عنهم؟ لماذا نتحيز ضد أنفسنا؟ لقد عاش علماؤنا هؤلاء في كنف الحضارة العربية الإسلامية، وكانت اللغة التي يتحدثون بها ويؤلفون بها هي العربية، فلماذا نعتبر جميع أولئك العلماء المصريين يونانا لمجرد أنهم كتبوا باليونانية، ثم لا نعتبر علماءنا عربا لمجرد أن أحدهم ولد في خراسان أو خوارزم أو فارس؟ وإذا كنا مقتنعين بهذا المعيار، فلنقل إذن: " العلماء المصريون: اقليدس وهيرون واراتسثينز وبطليموس..." العالِم شخص عالَميّ حين نقرأ تاريخ العلم الحديث، نلاحظ أن عددا من علماء النهضة الأوروبية كانوا يتنقلون بحرية بين الدول الأوروبية، ويُستقبلون في بلاط ملوكها، ويعلمون ابناءهم الأمراء؛ فالفيلسوف الرياضياتي الفرنسي رنيه ديكارت مثلا توفي في السويد حيث كان يعلم ابناء الملكة. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، انتقل علماء المان كثيرون إلى أمريكا والاتحاد السوفياتي، وغيرهما من الدول التي كانت في حرب ضروس مع بلادهم. وتابعوا أبحاثهم وانتاجهم العلمي. فالعالِم أو الباحث أذكى وأكبر من أن ينجرّ إلى مصيدة العنصرية والوطنية الضيقة التي يروّج لها السياسيون وبطاناتهم. ونجد في بريطانيا أحد أعظم الرياضياتيين المعاصرين، مايكل عطية، من أصل لبناني عربي، والفيزيائي البريطاني جيم الخليلي، من العراق. ويوجد في أمريكا حاليا علماء من مختلف الأصول، ومنهم عرب كثيرون، لكنهم يبحثون وينتجون دون اعتبار لأصولهم. لقد أصبح العلم نشاطا عالميا لا يعترف بحدود، أو بعرق، أو بالعداءات التي يفتعلها السياسيون. ونجد معظم الفرق البحثية تتكون من علماء من جنسيات عدّة، يعملون معا في سبيل العلم المجرد، ولخير الإنسانية جمعاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق