Powered By Blogger

الثلاثاء، 22 يناير 2013

تجربة القطر المصري في الترجمة في القرن التاسع عشر

22/01/2013 م. سائد مدانات، العرب اليوم هل لنا بمحمد علي باشا جديد؟ saed_madanat@hotmail.com طلع القرن التاسع عشر على مصر ولم يكنْ فيها معهد واحد تدرّس فيه أية لغة من اللغات الأجنبية. حتى إذا كانت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، اصطحبت معها مطبعة أحضرها بونابرت من روما وكانت تطبع بالفرنسية واللاتينية واليونانية والعربية والفارسية والسريانية. كما أسس بونابرت المعهد العلمي المصري عام 1798، وبلغ عدد أعضائه ثمانية وأربعين عضوا، وكانت له نشرة تصدر كل ثلاثة اشهر، ونشرت أعماله في أربعة مجلدات. ولما بدأ محمد علي باشا بتثبيت أقدام حكمه في مصر، واتجهت نيته لإنشاء جيش حديث فيها يشبه الجيوش الأوربية في التنظيم، استقدم إلى بلاده عددا كبيرا من الأطباء الأوربيين لتقديم خدمات طبية منظمة لعناصر الجيش. ثم أنشأ مدرسة للطب قرب مشفى الجيش في "أبي زعبل". كان كل أعضاء هيئة التدريس فيها من الأوربيين، بينما كان كل الطلاب من العرب الأزهريين.. وكان على الدكتور "كلوت" المكلف بإدارة المدرسة الطبية أن يضعْ خطة للتغلب على الحاجز اللغوي القائم بين الطلاب والمدرسين، وقد لخص الدكتور كلوت هذه الخطة في كتابه "لمحة عامة عن مصر" ورسم خطوات لتعريب المؤلفات العلمية والتقنية. فبالنسبة لتعريب المحاضرات، كان الأمر يتم على النسق التالي: كان الأستاذ يملي دروسه على الطلاب بوساطة مترجمين. وفي غالب الأحيان كان هؤلاء المترجمون ممن لا علم لهم بالمواد التي عليهم ترجمتها وليس لهم مقدرة على تأدية معاني الكثير من المصطلحات التقنية بشكل كاف، وكثيرا ما يستغلق عليهم فهم ونقل المسائل العلمية التي يقومون بترجمتها. لذا فإن الأستاذ يمدّ المترجم بالشروح والتفسيرات اللازمة لتسهيل مهمته. وبقصد تعريف المترجمين على المصطلحات التقنية ألحق بعض المترجمين بالمدارس الطبية والعلمية الأخرى كتلاميذ يتلقون العلوم مباشرة من الأساتذة. وأنشئت مدرسة لتعليم الطلاب اللغة الفرنسية. وصدر تنبيه من محمد علي إلى الأساتذة الأجانب بضرورة تعلم اللغة العربية خلال السنة الأولى من عملهم في مصر. تم اختيار نخبة من رجال الأزهر الشريف، من ذوي الدراية بعلوم اللغة وكلفوا بمراجعة النصوص المترجمة وتصحيحها، وإعادة كتابتها بلغة سليمة واضحة. ويعتمد المصحح والمترجم على ما بين أيديهما من معاجم لغوية وكتب طبية عربية قديمة. ثم تحول النصوص المترجمة إلى لجنة ثانية للمراجعة والتصحيح لإبداء الرأي والسماح بطبع الكتاب. وكثيرا ما يطلب من المترجم نفسه أو من مترجم غيره أن يعيد ترجمة النص العربي إلى اللغة الأجنبية ذاتها أو إلى لغة أجنبية ثانية ليطلع عليها الأستاذ المتخصص بتدريس المادة، فإذا وجد أن الأفكار سليمة، وأن المترجم متفهم للعبارات، أجاز تحرير النص العربي وطبعه. أوفد محمد علي بعثات علمية إلى بلاد أوربة عامة، وإلى فرنسة خاصة. كان الموفدون طلابا في الأزهر الشريف، وكان لهم دراية بعلوم اللغة العربية. وما أن أمضوا سنواتهم الأولى وتعلموا اللغات الأوربية حتى وافتهم تعليمات من محمد علي بالعمل على ترجمة الكتب التي يدرسونها "أولا بأول"، وبإرسال الترجمات إلى مصر. حتى إذا عاد الطلاب إلى مصر، لم ينتظرْ محمد علي حتى يصلوا لمقابلته في العاصمة بل كان يصدر إليهم الأوامر بترجمة بعض الكتب في الفترة التي عليهم أن يقضوها في المحجر الصحي "الكرنتينا". ويروي المؤرخون أنه لما عاد أعضاء بعثة عام 1826 استقبلهم محمد علي في ديوانه بالقلعة وأعطى كل واحد منهم كتابا فرنسيا في المادة التي درسها في أوروبة، وطلب منه أن يترجمْ ذلك الكتاب إلى اللغة العربية وأمر بحجزهم في القلعة، وإلا يؤذن لأحد منهم بمغادرة القلعة حتى يتم ترجمة ما عهد إليه بترجمته. بل إن هؤلاء الموفدين لا يلحقون بالوظائف الحكومية ما لم ينجزوا ترجمة كل ما يطلب منهم "مما هو لازم للمدارس الملكية، ومحتاج إليه في المكاتب السلطانية". إن أكثر الأمور الافتة للنظر في الترجمة المصرية أنها تجربة مؤسسية "أكاديمية" تحت رعاية وتشجيع الحكومة، وبإشرافها وتوجيهها، واعتمدت على أكثر فئات الشعب تنورا ومعرفة آنئذ وهم مشايخ الأزهر وطلبته. وفي ظل هذه المؤسسات ظهرت أولى المؤلفات الحديثة في العلوم، وأصبح لدى المدارس لوائح لتنظيم التعليم في مصر منذ عام 1826 وتنص هذه اللوائح على أن يجتمع المدرسون والمترجمون في "غرفة الترجمة" بالمدرسة يشتغلون بالترجمة ساعتين قبل الظهر وساعتين بعد الظهر. وفي غرفة الترجمة هذه تكامل ظهور "مسرد" للمفردات التقنية الأجنبية وما يقابلها من المصطلحات العربية الجديدة، زاد عدد كلماته على ستة الآف كلمة. ويعتقد الكثير من الباحثين أن هذه الهيئات قد وفقت توفيقا كبيرا في ترجمة أسماء كثير من المصطلحات الحديثة، واسماء الآلات. وما زال قسم كبير منها يستعمل حتى الآن في كتب العلوم الحديثة مثل الأنبوبة، البوتقة، الجفنة، المخبار، المرشح. عن مجلة "عالم الفكر" الكويتية، المجلد التاسع عشر، العدد الرابع: الترجمة والتعريب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق